بقلم الســـيد يســـين
لوحة عصر الاضطراب العالمي بالغة التعقيد، وينبغي للحديث عنها التعمق في فهم أبعاد ثلاثة أبرزها الصراع الحضاري وانهيار الدول وتفكك المجتمعات.
والواقع أن الصراع الحضاري بين العالم الغربي والعالم العربي والإسلامي بدأ منذ الاحتكاك المباشر بين قوى الاستعمار الامبريالية التي غزت عدداً من البلاد العربية، والقوى الوطنية والقيادات الإسلامية التي وقفت مواقف مختلفة من الحضارة الغربية التي حاولت تأسيس شرعيتها العالمية في ضوء مفهوم “المركزية الأوروبية”. وجوهر هذه المركزية الثقافية الزعم بأن القيم الغربية هي أسمى من كل القيم السائدة في الحضارات الأخرى، ومن ثم فهي لا غيرها التي من حقها أن تحدد تقدم المجتمعات أو تخلفها. وفى ضوء هذا التحيز الثقافي حكمت القوى الامبريالية الغربية على المجتمعات العربية والإسلامية بأنها مجتمعات متخلفة، وأنها من خلال استعمارها تحاول نقلها من حالة التخلف إلى حالة التقدم على النسق الغربي. والواقع أنه بعد حملة نابوليون على مصر ثارت بلبلة فكرية كبرى لدى جيل المثقفين المنورين العرب في عصر النهضة العربية الأولى.
وذلك لأن السؤال الجوهري الذي طرحوه كان لماذا التخلف العربي الإسلامي وما هى أسباب التقدم الغربي؟
ويرصد المؤرخ المغربي المعروف عبد الله العروي فى كتابه الشهير “الإيديولوجية العربية المعاصرة” ثلاثة نماذج أساسية للاستجابات المختلفة للمفكرين العرب في مواجهة التقدم الغربي. وقد ميز بين ثلاثة استجابات أطلق على الأولى منها “وعي الشيخ”، ويقصد به محمد عبده الذي كان يرى أن الإسلام لو تمت قراءته قراءة عصرية، يمكن أن يكون نموذجاً حضارياً يُحتذى، وتالياً ليست هناك ضرورة لاقتباس النموذج الغربي. وعلى عكس هذا الموقف نجد “وعي الليبرالي”، ويقصد به أحمد لطفي السيد، أحد رواد الفكر الليبرالي في مصر الذي كان يرى القطع نهائياً مع التراث وتطبيق النموذج الغربي في السياسة والاقتصاد والثقافة. ويبقى وعي “داعية التقنية” ويقصد به المفكر الماركسي المصري سلامة موسى الذي كان يدعو إلى القطيعة التامة مع فكر المجتمعات الزراعية المتخلف السائد وتبني التصنيع والتكنولوجيا أساساً للتقدم.
كانت هذه هى الجولة الأولى من الصراع الحضاري بين العرب والغرب.
غير أن الجولة الثانية التي أشعلت نيران الصراع الحضاري هي الرفض المطلق للحضارة الغربية، وهو الموقف الذى تبنته الجماعات الإسلامية المتطرفة. ولعل زعيم هذا التيار رشيد رضا، صاحب مجلة “المنار” والذي كان مفكراً تقليدياً رافضاً تماماً للحضارة الغربية وأثر بفكره على حسن البنا، مؤسس جماعة “الإخوان المسلمين” عام 1928، هو الذي أثر بفكره المتطرف على جماعات إسلامية متعددة.
ويمكن القول أن حسن البنا نجح نجاحاً بارزاً في تحويل التيار الإسلامي الرافض للحضارة الغربية إلى حركة جماهيرية واسعة انتشرت في مصر، ثم امتدت من بعد إلى عديد من البلاد الإسلامية.
كما يمكن القول أن هذا الموقف الرافض للحضارة الغربية والذي فشل فشلاً ذريعاً في التمييز بين جوانبها السلبية وأبعادها الإيجابية، كان بداية الصراع الحضاري بين العالم العربي والإسلامي والغرب عموماً. ولعل الذي دعم موقف هذه التيارات الإسلامية الرجعية أن الغرب الذي كان يزعم – في ظل دعاوى المركزية الغربية – دفاعه عن حقوق الإنسان، هو نفسه الذي مارس استعمار عديد من البلاد العربية والإسلامية واحتلالها.
ويمكن القول أن نيران الصراع الحضاري بين العالم العربي والغرب هدأت فى الخمسينات التي شهدت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 استقلال كل الدول العربية، وتم ذلك من خلال المفاوضات – كما حدث في مصر عام 1954 حين نجح جمال عبد الناصر في توقيع اتفاقية الجلاء مع إنكلترا بالرغم من بعض شروطها المجحفة – كما أن نظم “الوصاية” و”الانتداب” على سوريا ولبنان ألغيت، وغادرت القوات الإنكليزية المحتلة العراق. أما في المغرب العربي، فقد استطاع الحبيب بورقيبة أن يستخلص من فرنسا استقلال بلاده، وتمكنت ثورة التحرير الجزائرية أن تهزم قوات الاستعمار الاستيطاني الفرنسية وتحصل الجزائر على استقلالها الكامل بعد أن ضحت بمليون شهيد، كما أن المغرب حصل على استقلاله بعد معركة سياسية بطولية.
وهكذا نشأت الدول الوطنية العربية المستقلة التي تبنت شعار التنمية الذي ساد العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ولذلك حاول القادة العرب كل بطريقته تحديث بلاده، سواء على المستوى الإداري أو الاقتصادي، وإن غلبت الشمولية والسلطوية على طابع النظم السياسية، ومرت الديموقراطية بأزمة عميقة.
غير أن الدول الوطنية العربية، وإن نجحت بدرجة أو أخرى في تحديث المجتمعات العربية، فإنها فشلت بامتياز في تحقيق الحداثة على النسق الغربي. والحداثة الغربية تقوم على عدة أسس هي الفردية بمعنى إعطاء الفرد كامل حقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والعقلانية، والاعتماد على العلم والتكنولوجيا. غير أن أخطر جوانب الحداثة الفكرية الغربية مبدأ “أن العقل هو محك الحكم على الأشياء وليس النص الديني”، إعمالاً لمذهب العلمانية الذي يفصل تماماً بين الدين والدولة. ولذلك ظل النص الديني مهيمناً بدرجات متفاوتة فى المجتمعات العربية المعاصرة.
ولم تلبث هذه الهيمنة، خصوصاً في خطاب التيارات الإسلامية المتطرفة، أن تحولت إلى فكر ديني متطرف سرعان ما تحول إلى إرهاب صريح مارَس حربه ضد الدولة الوطنية المدنية محاولاً اقتلاعها لتأسيس دول دينية تطبق فيها الشريعة الإسلامية. وغالت بعض الجماعات المتطرفة – مثل جماعة “الإخوان المسلمين” في هذا المجال – بالسعي إلى إلغاء الدول الوطنية وتحويلها إلى مجرد “ولايات” في إطار نظام للخلافة الإسلامية حيث يحكم الخليفة الإسلامي كل البلاد الإسلامية، وهي الخطوة الضرورية – كما ترى هذه الجماعة – ليصبح المسلمون هم أساتذة العالم!
وخفت الصراع الحضاري العربي الغربي عقداً أو عقدين من السنين بحكم إشتعال الصراع السياسي بين الجماعات الجهادية والإرهابية الإسلامية والدول العربية كما حدث في مصر والجزائر. وفي هذا الصراع، كما حدث في مصر، نجحت الدولة الوطنية في استئصال شأفة الإرهاب بعد القبض على الآلاف من أعضاء الجماعات التكفيرية التي قام بعض أعضائها بعملية نقد ذاتي في ما أطلق عليها حركة “المراجعات”، وعلى أثرها تم الإفراج عن أعداد كبيرة من أعضائها.
غير أن الصراع الحضاري العنيف بين العالم الإسلامي والعالم الغربي سرعان ما اشتعل مرة أخرى بعد فترة كمون طويلة بعد أن هاجمت مجموعات إرهابية تنتمي إلى تنظيم “القاعدة”، كما اعترف بذلك بن لادن زعيم التنظيم، مراكز القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية في الولايات المتحدة الأميركية عام 2001، ترتب على ذلك ردود فعل أميركية هستيرية أبرزها غزو أفغانستان ثم العراق. وهكذا بدأت الحروب الثقافية من جديد بين الغرب والعالم الإسلامي