احتفى المتحف الفلسطيني في بيرزيت شمال رام الله بالمرحلة الأولى من حصاد مشروع الأرشيف الرقمي التي انتهى خلالها من حفظ 70 ألف وثيقة رقميا، ويستهدف المشروع توثيق حياة قطاعات فلسطينية تتعرض مجموعاتها من الصور والوثائق للتلف أو الضياع بسبب عدم الاهتمام بها من المؤسسات.
ويضم الأرشيف صورا فوتوغرافية ووثائق ورقية تاريخية وكتبا وأفلاما وتسجيلات صوتية، ومواد أخرى مهددة بالضياع أو التلف أو المصادرة، وجميعها توثق تاريخ المجتمع الفلسطيني منذ بدايات القرن الـ19 وحتى العام 2005، بما في ذلك توثيق لشتات الفلسطينيين بعد النكبة، وتأريخ للنشاط الاقتصادي والثقافي في العشرينيات من القرن الماضي.
وفي قاعة أسفل المتحف الفلسطيني، تنشغل اختصاصية الترميم شروق العجولي بإصلاح وثيقة عبارة عن طلبية حديد وصلب لإحدى شركات الإنشاءات الفلسطينية عام 1928، وهي واحدة من آلاف الوثائق التي يجري إدراجها رقميا ضمن مشروعه لأرشفة الوثائق الفلسطينية خلال قرن على الأقل.
وتقول العجولي إنها رممت حتى الآن نحو 150 وثيقة لأفراد وعائلات ومؤسسات فلسطينية، من بين سبعين ألف وثيقة استطاع فريق المتحف الفلسطيني جمعها ضمن مشروع يستهدف جمع ورقمنة 145 ألف وثيقة عن فلسطين حتى نهاية العام 2020.
وسيشاهد الداخل إلى مبنى المتحف الحديث صورا من مراحل مختلفة علقت كجداريات على حوائط زجاجية، ويقف الباحث ضياء علي بجانب صورة لوالده علي الحروب أثناء اعتقاله في سجن مجدو الإسرائيلي عام 1997، وليس بعيدا علقت صورة لطفل يحمل ملصقا للشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) في جنازته بعد اغتياله في تونس عام 1988.
ويعرض الأرشيف صورا غير ملونة لأسرة فلسطينية من قرية برهام في باحات المسجد الأقصى إثر حصولها على لم شمل عام 1973، وكذلك وثائق تاريخية مثل لفيفة ورقية لإحدى وقفيات البلدة القديمة في القدس حررت في 20 أكتوبر/تشرين الأول 1934.
وفي الأرشيف أيضا، صورة للفلسطينية نهاية محمد تدرب مجموعة نسوة على تفكيك وتركيب بندقية الكلاشينكوف في معسكر بيت نايم بمقرات منظمة التحرير في غوطة دمشق عام 1976.
وتمر هذه الوثائق منذ تلقيها من شخصيات وعائلات ومؤسسات بمرحلة الترميم، ثم التصوير والحفظ رقميا، قبل أن تصبح متاحة لجمهور الباحثين والمهتمين على منصة إلكترونية خاصة بالأرشيف الرقمي الفلسطيني أطلقت خلال يوليو/تموز الجاري وتحدّث باستمرار.
ويهدف مشروع الأرشيف الرقمي إلى حماية الموروث التاريخي الفلسطيني، واعتماد التوثيق الرقمي أداة لمواجهة أي مخاطر أو تهديدات قد تتعرض لها الوثائق أو القطع المختلفة.
ويقول الباحث حمزة أسعد إنه مشروع لحفظ الذاكرة الجمعية في طريق تطوير مرجع معرفي لتاريخ فلسطين السياسي والاجتماعي والثقافي للباحثين والمهتمين والفنانين وغيرهم، ومحاولة لتعزيز الوعي بأهمية الموروث البصري والفوتوغرافي والمكتوب لدى الأجيال الجديدة خاصة.
واستقى المشروع عددا كبيرا من وثائقه من مؤسسات، مثل جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني وفرقة الفنون الشعبية الفلسطينية والاتحاد العام للمرأة الفلسطينية ودار الأيتام الإسلامية في القدس، وكذلك من مجموعات فردية لمواطنين عاديين وباحثين.
ويضم الأرشيف الرقمي مجموعات مميزة ينفرد بأرشفتها، مثل أرشيف المصور سمعان السحار الذي يعد واحدا من أبرز المصورين قبل النكبة وبعدها.
ويغطي المشروع كافة مناطق فلسطين التاريخ، إضافة إلى الأردن ولبنان، ويطمح للوصول إلى أرشيفات الفلسطينيين في مراكز تجمعهم حول العالم، مثل أميركا اللاتينية.
ويقول مدير مشروع التوثيق عبد الرحيم خليلي إن المتحف يحتفظ بأربع نسخ ورقية ورقمية من كل وثيقة، حيث تعاد الأصلية لصاحبها بعد ترميمها مع نسخة رقمية أيضا، إلى جانب نسخ تحفظ عبر منصته ونسختين رقميتين على منصات أخرى داخل وخارج فلسطين.
وأشار خليلي إلى أن هذا العمل يسقط أي تهديد بضياع أو تلف الأرشيف، وحدث هذا مع أرشيفات فلسطينية عديدة تعرضت لسرقة أو تخريب إسرائيلي أو ضياع خلال انتقال مؤسساتها، مثل أرشيف المركز الفلسطيني للأبحاث التابع لمنظمة التحرير.
ويسعى المشروع إلى تجاوز البعد الجغرافي بجمع الوثائق الخاصة بفلسطينيي الشتات، وفي الوقت نفسه إتاحة الأرشيف الفلسطيني للفلسطينيين وغيرهم في كل العالم، كما يشجع البحث لدى المهتمين ببناء رواية تاريخية صحيحة عن فلسطين التاريخية من خلال الوثائق.
ويقول مسؤول المشروع إن الوثائق تخضع أيضا للتدقيق المعلوماتي لمحتواها حتى لو جاءت من أصحابها، للتأكد من مصداقيتها قبل نشرها على منصة الأرشيف.
وتقول مديرة المتحف الفلسطيني عادلة العايدي إن مشروع الأرشفة الرقمية سيشارك محطات مهمة ومنسية من حياة الفلسطينيين وتاريخهم الاجتماعي والثقافي والسياسي مع كل العالم، ليصبح هذا التاريخ الشخصي والجمعي عابرا للحدود.
وتشير العايدي إلى أن محتوى الأرشيف هو من ألبوم العائلة ومحاضر الاجتماعات السياسية والاقتصادية والثقافية ومراسلات الأسرى إلى عائلاتهم والممارسات اليومية للفلسطينيين.
وتقول إن الأرشيف الرقمي لا يسعى لتوثيق مادة غير نخبوية تنتجها النخب فقط، وإنما أيضا ممارسات الفلسطيني في حياته اليومية، ولذا ينشط في توعية الناس بأن كل مادة في أي بيت فلسطيني يمكن أن تكون جزءا من ثقافة الشعب الفلسطيني.
يقول الباحث حمزة أسعد إن بناء أرشيف كهذا هو ممارسة سياسية تهدف إلى تعزيز السردية الفلسطينية، وباعتقاده جاء الاهتمام به بهذا الشكل متأخرا لأسباب عدة، أبرزها الانتكاسات السياسية، وعدم استقرار المجتمع الفلسطيني تاريخيا، وتعرضه لهجمات إسرائيلية دائمة، وسرقة الاحتلال للأرشيفات قبل وبعد النكبة، إلى جانب عدم وجود مكان آمن لحفظ الأرشيف، وكذلك توزعه داخل الوطن وفي الشتات.
أما الباحثة سمر عزريل فتعتقد أن أهم إنجازات المشروع ليس جمع الوثائق وعرضها فقط، وإنما تحويلها من مادة صماء إلى رواية ناطقة من خلال شرح محتواها وشخوصها وتاريخها.