في عمله الأخير الذي يحمل راهنيّة قصوى، يدين عالم الاجتماع السويسري جان زيغلر (1934) «النظام العالميّ المتوحش» الذي يخلق الوفرة لأقليّة صغيرة والبؤس القاتل للأغلبيّة. يعود كتاب «أشرح الرأسماليّة لابنتي الصغيرة، على أمل أن ترى نهايته» (دار سوي ــــ 2018 ــــ Le capitalisme expliqué à ma petite-fille (en espérant qu’elle en verra la fin)) بطريقة تعليميّة إلى الأسس الأيديولوجيّة وولادة وتطوّر نظام رأسماليّ قاسٍ يعمل عبر المراكمة الثروات بلا حدود وتركيزها في أيدي أقليّة. يحاكم نائب رئيس اللجنة الاستشاريّة لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، مجتمع الاستهلاك السائد والاغتراب الذي يوّلده. لكنه يذكّر أيضاً بثراء وتنوّع والوزن المتعاظم للمجتمع المدنيّ العالميّ المصرّ على مقاومة ديكتاتوريّة أوليغارشيّة رأس المال الماليّ المعولمة على كلّ الجبهات. في هذا الحوار، يذكّر المقرر الخاص السابق للأمم المتحدة حول الحقوق والتغذية (2000- 2008) بضرورة تدمير نظام صار «خطراً على الكوكب على نحو قاتل» لفتح الطريق أمام بروز مجتمع متساو يحلم الجميع به في شكل يوتوبيا.
أنت تعتبر، على العكس من تيار كان سائداً في زمن ما ضمن صفوف اليسار، أنّ الرأسماليّة نظام له أسس تالفة، وصار متوحشاً، يهدّد وجود البشريّة والكوكب. لماذا تعتقد في استحالة إصلاحه؟
– منذ بداية هذه الألفيّة، تمتّعت البشريّة، للمرة الأولى في تاريخها، بوفرة في السلع. يغرق الكوكب في الثروات، حيث تتجاوز الخيرات الحاجات الضروريّة للبشر بشكل كبير. في الوقت عينه، نعيش في كوكب يموت فيه كلّ خمس ثوان طفل لا يتجاوز سنّ العاشرة من الجوع أو من مرض مرتبط به، في حين يمكن للأرض إطعام ضعف البشر الموجودين من دون مشاكل في حال كان توزيع الغذاء منصفاً. كلّ طفل يموت من الجوع هو طفل مغتال. صار الهواء في عدد من المراكز المدينيّة غير صالح للتنفّس لتشبّعه بالمواد السامة التي تُهاجم الأجهزة التنفسيّة وتسبب السرطانات. يُلوّث الماء كذلك من منابعه، تسببت طبقات مياه جوفيّة وأنهر مسمّمة في مرض ملايين البشر عبر العالم. نشرت منظمة الصحّة العالميّة تقريراً يؤكد أنّ 62 في المئة من السرطانات في الدول الصناعيّة، تعود إلى الآثار المؤذية المتولدة عن نظام طبيعي مشوّه أو إلى الأغذيّة المُصنّعة. ذلك في حين يُقال باستمرار إنّه توجد آثار سلبيّة للرأسماليّة لكن يمكن إصلاحها. يُعلّمنا التاريخ أنّه لا يمكن إصلاح أو أنسنة نظام مُضطهِد. هل كان بإمكان الثوار الفرنسيّين عام 1798 إصلاح الامتيازات الاجتماعيّة الموروثة عن النظام الإقطاعيّ؟ وهل كان بالإمكان إصلاح النظام العبوديّ أو الاستعماريّ؟ من الجليّ أنّ الإجابة سلبيّة بما أنّ المبدأ المؤسِس للنظام الرأسماليّ هو الربح، التنافس الشرس بين الأفراد وجميع الشعوب. يبنى منطق رأس المال على المواجهة، سحق الضعيف، والحرب، لا يمكن إصلاح هذا النظام تدريجاً وسلمياً. يجب تدميره كليّاً وجذريّاً حتى يتسنى خلق تنظيم اجتماعيّ واقتصاديّ جديد للعالم.
بيد أنّك تعترف أنّ النظام الرأسماليّ أكثر ابتكاراً، فهو قادر على خلق ثروات لا نهائيّة وتحفيز الإنتاج في جميع الميادين. هل يمكن أن تحدثنا عن هذه المفارقة؟
– أشرح في الكتاب أنّ الرأسماليّة هي نمط الإنتاج الأكثر ابتكاراً وديناميّة في تاريخ البشريّة، حيث يتميّز بحيويّة وإبداع مذهلين. بمركزتهم وسائل التمويل الهائلة، وتعبئتهم للمواهب البشريّة، ولعبهم على التنافس والمزاحمة، يسيطر أقوى الرأسماليّين على ما يطلق عليه الاقتصاديّون «معرفة الإشكاليّة»، أي البحث العلميّ والتكنولوجي في مجالات عدة: الإلكترونيات، المعلوماتيّة، الأدوية، الطبّ، الطاقة، الطيران، الفلك، البناء إلخ. لكن شرحت أنّ هذا النظام يعمل وفق مبدأ واحد، هو تعظيم الربح، ويستند إلى الديكتاتوريّة العالميّة لأوليغارشيات رأس المال الماليّ المعولم. وفق البنك العالميّ، سيطرت في العام الماضي أقوى 500 شركة خاصّة عابرة للقارات في جميع المجالات ـــ الصناعة والخدمات والمال إلخ ــــ على 52.8 في المئة من الإنتاج العالميّ الخام، أي أكثر من نصف مجمل الثروات (السلع، الامتيازات، الخدمات، الرساميل) المنتجة خلال عام على كوكبنا. تتجاوز موازنة شركة «إكسون موبيل» الناتج الداخليّ الخام للنمسا، وتتجاوز موازنة «جنرال موتورز» الناتج الداخليّ الخام للدنمارك. ينجح مسؤولو هذه الشركات في الهرب من جميع أشكال المراقبة الدولتيّة، النقابيّة، والبرلمانيّة. لقد خلقوا ديكتاتوريّة تتجاوز أقوى الدول، وتلك شركات تسيطر على المسارات العلميّة والتقنيّة بنجاح كبير لتضخيم ربحها في أقصر وقت ممكن، وبصرف النظر عن الكلفة البشريّة في أحيان كثيرة. ذلك ما يخلق النظام العالميّ المتوحّش. يوجد رقم آخر يظهر هذا الواقع المشؤوم، امتلك الـ85 أثرى ملياردير عالمي في 2017 ثروات تضاهي ما يملكه الـ3.5 أفقر شخص. ارتفعت القدرة الماليّة الاقتصاديّة لأغنى 562 شخصاً في العالم 41 في المئة بين عامي 2010 و2015 في حين انخفضت القدرة الشرائيّة لأفقر 3 مليار فرد 44 في المئة.
ما هي الآليات التي تخلق تفاوتات بهذا الحجم؟
– نحن نشهد انحطاط الدولة الوطنيّة التي تفقد قدرتها المعياريّة. أوّل ما تفعله المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل، أو الرئيسان الأميركيّ دونالد ترامب والفرنسيّ إيمانويل ماكرون، عند وصولهم إلى مكاتبهم في الصباح، هو الاطلاع على مؤشرات البورصة ليعرفوا أيّ هامش مليمتريّ يتوافر لهم لتطبيق سياستهم الضريبيّة والاستثماريّة. الأوليغارشيّون، أصحاب رأس المال الماليّ المعولم، هم من يحكمون الاقتصاد العالميّ، ويقرّرون كلّ يوم مَن له الحقّ في العيش على هذا الكوكب ومن يُحكم عليه بالموت. تُقتل شعوب الجنوب الفقيرة أثناء العمل لتمويل تنمية البلدان الغنيّة. يُموّل الجنوب الشمال وبخاصّة طبقاته المهيمنة. اليوم، تتمثّل أهمّ وسائل هيمنة الشمال على الجنوب في خدمة الدين. تحوّل الدول الفقيرة سنويّاً للطبقات الميسورة في الدول الغنيّة الكثير من المال، أكثر مما تتلقاها منه في شكل استثمارات ومساعدات إنسانيّة أو ما يسمى مساعدات على التنمية. يضمن الدَين النظام العالميّ المتوحّش وجلّ قوّة الأوليغارشيات رأس المال الماليّ المعولم.
نشهد أيضاً اختفاء حسّ الخير المشترك والمصلحة العامة. خلقت السلطات الماليّة نظريّة تُفرغ الإنسان من التاريخ وتؤكد وجود هيئة تعديليّة واحدة: اليد الخفيّة، أي قوى السوق الخاضعة لقوانين طبيعيّة، لا يوجد إذن ما يمكن فعله غير التأقلم. أجيب في كتابي على اقتباس لبيار بورديو «النيوليبراليّة سلاح إخضاع، حيث تعلن قدريّة اقتصاديّة تبدو كلّ مقاومة لها عبثيّة. النيوليبراليّة تشبه الإيدز: تدمّر النظام الإنسانيّ للضحايا». أخذت نظام الاقتراع في سويسرا لتوضيح الاغتراب الذي يؤدي لأن يفكّر النساء والرجال، ويتصرفوا، بحريّة ضدّ مصالحهم، إنه الخضوع الطوعيّ لقانون رأس المال. يوجد في الاتحاد السويسريّ نظام سياسيّ يسمى «الديموقراطيّة المباشرة»، أي أنّه يمكن لمئة ألف مواطن ومواطنة أن يتحدوا ليطالبوا باقتراع شعبيّ لتنظيم أو تغيير أيّ فصل في الدستور. لقد صوّت السويسريّون بحريّة، في الخلوة الانتخابيّة، ضدّ تحديد حدّ أدنى للأجور، ضدّ تقييد الرواتب الأكثر ارتفاعاً، ضدّ خلق صندوق عام للتأمين على المرض، ضدّ إضافة أسبوع إجازة للجميع، ضدّ رفع ترفيع رواتب المتقاعدين. تمثّل سويسرا النموذج المثاليّ للديموقراطيّة المزيّفة.
في أيّ سياق تاريخيّ ولد هذا النظام العالميّ المتوحّش؟
– تاريخيّاً، مع نهاية المجتمع العبوديّ، في أوروبا، وجد مالك الأرض نفسه عاجزاً عن شراء عمّال إضافيّين لتنمية إنتاجيّته. صار عليه إذن تنمية أدواته، شبكات تسويق منتجاته، مصادر الطاقة، وطرق استخدام المواد الأوليّة. تطوّر التعامل البدائيّ مع المواد الأوليّة: شهدت حرف النسيج، الجلود، الأخشاب، والمعادن اندفاعة ساطعة. في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، حصل تبدّل اجتماعيّ، رمزيّ، اقتصاديّ، وسياسيّ جديد أعلن انحدار السلطة الإقطاعيّة. بأخذها الأسبقيّة على ملكيّة الأرض، قادت ملكيّة الأدوات إلى ولادة طبقة جديدة: البرجوازيّة المدنيّة الوليدة.
منحت هذه الملكيّة سلطة جديدة لتلك الطبقة، أي، بعبارة أخرى، سلطة مضادة في مواجهة الأسياد الإقطاعيّين.
يُعلّمنا التاريخ أنّه لا يمكن إصلاح نظام مُضطهِد. هل كان بإمكان الثوار الفرنسيّين عام 1798 إصلاح الامتيازات الاجتماعيّة الموروثة عن النظام الإقطاعي؟
مع بروز البلدات، صارت جماعات من المواطنين والبرجوازيّين تناضل لتنزع من الأسياد حقوقاً، إعفاءات، ولتنظّم عملها، أسواقها، لتحتمي من الميليشيات، وتسيطر على العملة والأثقال والأعيرة. أدى تعميم سياسة التحالف بين بعض الأسياد الإقطاعيّين وجماعات من البرجوازيّين والتجار الحضريّين في أوروبا القرن الثاني عشر إلى اشتداد عود الطبقة الرأسماليّة البرجوازيّة. لكن لم يظهر انتصارها السياسيّ، الأيديولوجيّ، والاقتصاديّ إلاّ مع الثورة الفرنسيّة. بالتأكيد، تخلت الجمهوريّة الأولى عن السّلطة المطلقة للملكيّة، وحطّمت الإقطاع، وحرّرت الأقنان، وركّزت سيادة شعبيّة وأعطت جزءاً من البشريّة الأمل في حياة أكثر حريّة وكرامة. لكنّ إضفاء القداسة على الملكيّة الخاصّة، التي تمثّل أساس الاستغلال الرأسماليّ، من قبل اليعاقبة تحديداً، قاد إلى كارثة نعانيها حتى الآن. الملكيّة الخاصة، وحمايتها بشكل مطلق، جاءت على حساب المصلحة العامة، وتمثّل قلب المشكلة، المصدر الأساسيّ للرأسماليّة المسخة.
ما هو الدور الذي لعبه التوسّع الاستعماريّ في تطوّر النظام الرأسماليّ؟
– خلق نهب الثروات، وهو ثمرة العبوديّة، الرساميل الضروريّة للأوليغارشيات المهيمنة في المركز. وصف ماركس التراكم البدائي في «رأس المال» حيث قال إنّ «النظام الاستعماريّ يضمن أسواقاً للصناعات الوليدة التي تتضاعف تسهيلاتها بفضل احتكار السوق الاستعماريّة. تُحوّل الثروات المنتزعة مباشرة خارج أوروبا عبر العمل القسريّ للأهالي المُحوّلين إلى عبيد، والاختلاس، والنهب والقتل، إلى الوطن الأم لتعمل كرأس مال». أتناول في كتابي نموذج جامايكا التي كانت تحوي في 1773-1774 أكثر من 200 ألف عبد في 775 حقلاً. ووفق حسابات ماركس الأكثر دقّة، جنت إنكلترا من تلك الحقوق في جامايكا، فقط خلال عام 1773، أرباحاً صافيّة تجاوزت 1.5 مليون ليرة ذهبيّة في ذلك الزمن. بتلك الأموال، بُعثت في إنكلترا مصانع عملاقة –مخصّصة في الأغلب لصناعة النسيج. نهبت إسبانيا أميركا اللاتينيّة على نحو منظّم على امتداد 350 عاماً. أذكر أنّ بورتوزي كانت المدينة الأكبر في الأميركيتين، القمّة التي كانت تشرف عليها، سيرو ريكو، أي «الجبل الثريّ»، كانت توجد فيها آلاف من العروق الفضيّة. في ثلاثة قرون، استخرج 40 ألف طنّ من خامات الفضّة، ومات أربعة ملايين هنديّ. اشتركت فرنسا في الجريمة نفسها، حيث نهبت البلاد الأفريقيّة بنجاح. من الواضح أنّ التراكم الاستعماريّ كان أساس القوّة المذهلة للدول الأوروبيّة. يولد رأس المال عبر الجريمة المنظّمة والاستعمار.
كيفّ تعرّف المجتمع الكوكبيّ الجديد الذي تعقد عليه آمالك لتحطيم الرأسماليّة؟
– هذه الوفرة من الحركات الاجتماعيّة هي نتاج تمرّد الضمائر، إنّها جبهات مقاومة في جميع مجالات الحياة، يقول تشي غيفارا: «حتى الجدران الأكثر قوّة تنهار بتصدعاتها». يجمّع المجتمع المدنيّ الكوكبيّ ملايين النساء والرجال المنتمين إلى شعوب، وطبقات اجتماعيّة، وشرائح عمريّة مختلفة. تمثّل الحركات الاجتماعيّة الأكثر تنوعاً «فيا كامبسينا»، وهي منظمة تجمع أكثر من 120 مليون مزارع، من فلاحين صغار وفلاحين باليوميّة، والحركات النسويّة التي تناضل ضدّ التمييز والعنف، و«غرين بيس» التي تناضل ضدّ التهديدات التي تتعرّض لها الطبيعة والتنوّع البيئيّ، وحركة «أتاك» التي تسعى للحدّ من تخريبات رأس المال المضارب، و«منظمة العفو الدوليّة» التي تناضل في سبيل احترام حقوق الإنسان الدنيا في كلّ أصقاع العالم؛ وعشرات آلاف الحركات الاجتماعيّة الأخرى المعادية للرأسماليّة. قوّة هذا المجتمع المدنيّ، الذي يجمع حركات من دون أن تكون لها لجنة مركزية أو خطّ تحزّب وبرنامج مشترك، تأتي من أنّ محركها هو الضرورة القاطعة. يقول إيمانويل كانط إنّ «اللاإنسانيّة المسلّطة على شخص آخر تدمّر إنسانيّتي». أجد في الآخر إذن دافعاً تضامنيّاً بالضرورة، هذا الواجب الأخلاقيّ موجود في كلّ منّا. يجب الإفاقة، وتعبئة المقاومة، وتنظيم المعركة، وقد حقّق المجتمع المدنيّ الكوكبيّ نقاط تقدّم هائلة في هذا الصدد.
وفق تحقيق للاتحاد الأوروبيّ حول أوروبا، يبتلع كلّ فرد ما يضاهي 5 ليترات من المبيدات الحشريّة سنويّاً مع طعامه. مبيدات الحشائش هي الأكثر استعمالاً. ووفقاً لجميع التحقيقات الطبيّة الموجودة تقريباً، يبدو أنّه يمكنها التسبب في السرطان. في تشرين الأول (أكتوبر) 2017، أقرت المفوضيّة الأوروبيّة، تحت ضغط شركات الكيمياء الفلاحيّة، فترة جديدة بخمسة أعوام لاستغلال هذا المنتج. لكن توجد عريضة جديدة ستمنع «الغليفوسات» (مبيد حشائش). هذا انتصار لا علاقة له بتحركات المنظمات السياسيّة أو النقابات، بل يرتبط بأخويّة الظلّ تلك. كتب كارل ماركس في رسالة إلى صديقه جوزيف وايديمر: «يجب أن يكون الثوريّ قادراً على سماع صوت نموّ العشب»، والعشب حاليّاً في صدد النموّ.
لا تتبنّى جميع الحركات في هذا المجتمع المدنيّ بالضرورة منطق القطع الجذري مع الرأسماليّة، إذ ينخرط بعضها في منطق إصلاحيّ، كيف تُخلق نقطة التقاء بين الصراعات؟
– أظن أنّه سيكون للتدريب دور. من فشل إلى فشل، تفهم بعض الحركات أنّ القطيعة ضروريّة. الرغبة في إيجاد شيء مختلف تماماً، تسكننا اليوتوبيا، قوّة تاريخيّة مذهلة تتحقّق رويداً.
المشكل الأكبر الذي صاغه سارتر هو التجسيد، ما هي شروط تحوّل فكرة إلى قوّة ماديّة؟
– في 14 تموز (يوليو) 1789، تحرّك حرفيو وعمال ضاحيتي سان مارتان وسان أنطوان البروليتاريّتين في باريس نحو سجن الباستيل للسيطرة عليه، وهو رمز مكروه للسلطة الاستبداديّة. لقد أطلقوا سيرورة ثوريّة خلصت إلى قطع رأس الملك، والإقطاع، والكنيسة الكاثوليكيّة. لكن تدفقت أفكار التنوير على امتداد القرن الثامن عشر، لقد جالت في كلّ مكان: ضدّ سلطة الملوك المطلقة، ضدّ الظلاميّة الدينيّة، في سبيل تطوير المعرفة والعلوم، في سبيل العقل، في سبيل الحريّة، في سبيل المساواة بين البشر. تجسّدت تلك الأفكار في 14 تموز (يوليو) على يد العمال والحرفيّين، والشعب الثائر. يوجد إذن لغزان لا يمكن تحديدهما عقلانيّاً، الوضعيّة التاريخيّة التي تخلق التجسيد، أي شروط تحوّل فكرة إلى قوّة ماديّة، وأيضاً المشروع، العقد الاجتماعيّ الجديد. يقول الشاعر الإسبانيّ الكبير أنطونيو ماشادو: «أنت السائر، لا يوجد طريق، آثارك هي من تصنع الطريق، لا غير». لا يمكنني توقّع شكل المجتمع الجديد الذي سيخلقه المسار الثوريّ لكن أعرف أنّ قدر الرأسماليّة هو أن تُدمّر.