واهمٌ مَن يعتقد أن القوى الغربية لن تسعى إلى استغلال الأزمة السياسية الجزائرية، إن استطاعت ذلك. هذه القوى، بسبب طبيعتها الاستعمارية، حاولت دائماً الاستفادة من أي أزمة سياسية و/أو اجتماعية في دول الجنوب، خاصة تلك المستقلة، للسيطرة عليها أو زيادة نفوذها في داخلها. ويأتي التراجع المستمر للهيمنة الغربية على صعيد عالمي، في مواجهة صعود أقطاب غير غربيين، ليعزّز من الميل للتدخل في الأزمات الداخلية لبلدان الجنوب لدى الأولى، بدلاً من أن يشكل عاملاً كابحاً لذلك.
بقلم وليد شرارة
عرض تاريخ التدخلات الغربية، المباشرة أو غير المباشرة، في العقدين الأخيرين، في الأزمات الداخلية لبلدان عربية وإفريقية وأميركية لاتينية، يؤكد هذه الحقيقة بوضوح. وقد اتخذت هذه التدخلات طابعاً عسكرياً مباشراً في منطقتنا العربية، كما جرى في العراق وليبيا وسوريا. وكان من بين دوافع الحروب التي تعرضت لها هذه البلدان، انتساب أنظمتها إلى تيار القومية العربية، الذي ناصبه الغرب الأورو-أميركي العداء منذ نشأته، وعمل باستمرار على محاصرته وإضعافه تمهيداً للقضاء عليه. مناسبة هذا الكلام، تصريح الناطق باسم الخارجية الأميركية، روبرت بالادينو، عن مراقبة بلاده للتظاهرات في الجزائر، و«دعمها للشعب الجزائري». يشكل هذا التصريح بذاته تدخلاً في الأزمة الجزائرية، ولا ينبغي أن يُنظَر إليه باستخفاف. إلا أن مناعة الغالبية العظمى من شعب الجزائر ضد أي تدخل خارجي في شؤونها، مهما كانت حدّة الأزمة الداخلية، تقطع الطريق على هذا الأخير.
ذاكرة الدم الطويلة
أكثر ما يلفت في تعليقات الإعلام الغربي السائد، ولا سيما الفرنسي، عن تطورات الأزمة السياسية الجزائرية الحالية، إشارته المتكررة إلى أن قطاعاً كبيراً من الجيل الشاب الذي يتظاهر اليوم لم يعاصر «العشرية السوداء»، أي الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد خلال عقد التسعينيات. بمعنى آخر، هذا الجيل، بحسب المعلقين، لا يخاف من رفع سقف المطالب السياسية، وتصعيد التحركات الاحتجاجية ضد السلطات بما لا سابق له في الماضي القريب. وبالفعل، إن ضخامة التظاهرات التي تشهدها البلاد، ومشاركة قوى وأوساط سياسية واجتماعية متعددة فيها، وضعٌ مستجد يؤشر على عودة جماهير الشعب إلى حلبة السياسة بعد فترة انقطاع طويلة عنها، عادة ما تلي الحروب الأهلية الطويلة والدامية. إلا أن هذه العودة المدوية لا تتناقض مع إدراك مخاطر الذهاب إلى صدام عنيف مع السلطات، وتداعياته ومفاعيله التي يصعب التحكم بها كما أظهرت التجربتان الليبية والسورية.
كشفت التجربتان مدى قدرة الخارج المتربّص على استتباع حركات احتجاجية محلية أظهرت الأطراف الناطقة باسمها استعدادها لذلك، وتوظيفها في إطار سياسات هذا الخارج واستراتيجياته، التي كان من بين نتائجها المباشرة تدمير البلدين. نظرة سريعة إلى واقع ليبيا، التي باتت دولة مُقسّمة بين مجموعات تابعة لمحاور إقليمية ودولية، وتتنازع على نفطها وغازها الشركات الإيطالية والفرنسية، تكفي لتوضيح المآل الكارثي الذي قد تقود إليه شعارات «التغيير الفوري» وبـ«أي ثمن». لا تعفي هذه الحقائق الأنظمة من مسؤوليتها عن استفحال الأزمات الداخلية، لكن على قوى المعارضة التي لا تراعي واقع موازين القوى، ولا تتورع عن استدعاء التدخلات الخارجية، مسؤولية طاغية عن وصول أوضاع بلدانها إلى ما وصلت إليه.
غير أن مناعة الجزائريين ضد التدخلات الخارجية لا ترتبط فقط بالأحداث القريبة المحلية والإقليمية، بل بتاريخ هذا البلد الطويل، والطبيعة الخاصة لصراعه الدامي والمديد مع الظاهرة الاستعمارية الغربية. ليس من المبالغة القول إن الهوية الوطنية الجزائرية المعاصرة نتاج لهذا الصراع. لم يقدّم الجزائريون مليوناً ونصف مليون شهيد فقط في نضالهم من أجل الاستقلال. هذا عدد شهداء آخر ثورة اندلعت عام 1954، من سلسلة ثورات لم تتوقف في أنحائها منذ غزوها من قِبَل جيوش الاستعمار الفرنسي عام 1830. منذ هذا التاريخ، اندلعت انتفاضات وثورات كثيرة أُخمِدَت عبر اعتماد سياسة القتل الجماعي والتهجير السكاني، وتدمير المدن والبلدات والقرى، والاستيلاء على المحاصيل وتجويع السكان. يشير المؤرخ الفرنسي، أوليفييه لوكور غرانميزون، في كتابه المرجعي «عن الحرب والدولة الاستعمارية»، إلى أن حصيلة الحروب المتواصلة التي شنتها القوات الفرنسية على الجزائريين حتى أواخر القرن التاسع عشر، كانت إبادة نحو الثلثين منهم. ويذكر كاتب وناشر فرنسي شهير آخر هو فرنسوا ماسبيرو، في مقدمة مذكرات الجنرال آرمان دو سانت أرنو (الذي قاد غزو الجزائر)، التي أعاد نشرها، كيف أن هذا الأخير هو الذي استخدم للمرة الأولى غاز الكربون لقتل سكان المناطق المتمردة عبر حشرهم في مغاور، وإشعال الحرائق على مداخلها ليموتوا خنقاً. هي السابقة الأولى لاستخدام الغاز ضد المدنيين، قبل استخدام غاز آخر من قِبَل النازيين في الحرب العالمية الثانية. وقد تحولت الجزائر، في الجولة الأخيرة من جولات صراعها مع المستعمر الفرنسي، إلى مختبر لنظريات حروب مكافحة التمرد، المُوجّهة أساساً ضد السكان، التي بلورها الكولونيل روجيه ترانكيي بعد تجربته في فيتنام، وطبّقها الجنرالان ماسو وبيجار، والتي اعتمدت أدوات كالاستخدام المنهجي والواسع النطاق للتعذيب، وإقامة معسكرات الاعتقال، وتشكيل فرق الموت بهدف الصدم والترويع. لقد اكتوى الجزائريون بنار الاستعمار التي لم تسلم منها أي بقعة من بقاع بلادهم.
التوجهات الاستقلالية والثروات الطبيعية
ما تشهده الجزائر اليوم أزمة سياسية مرتبطة بعجز أطراف السلطة الجزائرية عن التوافق على مرشح للانتخابات الرئاسية. ليس سراً أن بين هذه الأطراف جهات نافذة في الجيش وفي قادة جهاز الأمن وفي أوساط طبقة رجال الأعمال وفي قيادة حزب «جبهة التحرير». بعض هذه الأطراف دعم، عبر وسائل إعلام مرتبطة به أو من خلال أحزاب سياسية معارضة متحالفة معه، الاحتجاجات الشعبية ضد ولاية رئاسية خامسة لعبد العزيز بوتفليقة. الجناح الآخر متمسك بالرئيس، بما أنه لم يجرِ التوصل إلى تفاهم على مرشح آخر. خلفيات الجماهير التي نزلت إلى الشوارع مختلفة، وقسم كبير منها أراد الاعتراض على ما يراه سياسة ازدراء من السلطة حياله عبر تسمية مرشح عاجز عن القيام بمهماته، والمضي بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية نفسها، والتي أدت إلى تعاظم الفوارق بين الجزائريين، وتراجع مستويات العيش بالنسبة إلى معظمهم، وتعاظم ثروات البعض نتيجة علاقاته الخاصة مع السلطة.
هي حركة احتجاجية شعبية من أجل الإصلاح. غير أن القوى الغربية تتربّص بالجزائر لدواعٍ أخرى. فمهما قيل عن النظام الجزائري، فما زال هذا الأخير ينتهج سياسات استقلالية ملتزمة الثوابت الوطنية والقومية، خاصة بالنسبة إلى قضية فلسطين، وداعمة للمقاومة، ومعارضة لحروب التدخل الإمبريالية في العراق وليبيا وسوريا. وحتى على المستوى التسليحي، لم يقع النظام في فخ الاعتماد على منظومات السلاح الغربية والأميركية، وحافظ على علاقات تعاون وثيق مع روسيا في هذا المجال. وهو يعتمد في المجال النفطي سياسة تعطي الأولوية للمصالح الوطنية، بعكس الدول التي ترسم سياستها بناءً على توجيهات الولايات المتحدة. الأطراف الغربية تأمل أن تستفحل الأزمة في بلد المليون ونصف مليون شهيد، وأن يفضي ذلك إلى إضعاف الدولة والمجتمع، وهو عكس ما تريده غالبية الجزائريين. الرهان هو على مناعتهم الوطنية القوية التي تمنع الخارج المعادي من استغلال مطلب الإصلاح، للدفع إلى الاحتراب الداخلي والخراب.