لم يعد مقترح إحلال اللغة الإنجليزية محل الفرنسية في الجزائر مطلبا شعبيا متداولا عبر منصات التواصل الاجتماعي فحسب، بل أصبح ضمن خطط الحكومة وظهر في قرارات وزراية تتجه نحو إنهاء هيمنة الفرنسية على البلاد.
وبرزت خطط إحلال الإنجليزية بدلا عن الفرنسية في الجزائر بشكل لافت في الأسابيع الأخيرة بالتزامن مع حراك شعبي أجبر الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة من الرئاسة في 2 أبريلن الماضي.
ويستمر الحراك الشعبي منذ خمسة أشهر رافعا مطالب عديدة، بينها القضاء على “الوصاية” والنفوذ الفرنسي في الجزائر التي تعد اللغة والثقافة الفرنسيتين إحدى أبرز أدواته، ويعتبر كثيرون في الجزائر أن الفرنسية من مخلفات فترة الاستعمار الفرنسي لبلدهم (1830-1962)، وأنها من الشواهد على استمراره نفوذ العاصمة الفرنسية باريس في الجزائر.
وأطلقت وزارة التعليم العالي عبر منصة رقمية في 5 يوليو الجاري استفتاء يستمر شهرا بشأن تعزيز مكانة اللغة الإنجليزية في الجامعة، وأظهرت نتائج أسبوعه الأول دعم الأغلبية الساحقة من المصوتين للغة الإنجليزية.
وصوت 94.4% من بين ما يزيد على 87 ألف مشارك لصالح تعزيز استعمال الإنجليزية في قطاع التعليم العالي والبحث العلمي مقابل 5.6% صوتوا بالعكس، في حين أعلنت وزارة التربية مطلع يوليو/تموز الجاري إلغاء الفرنسية نهائيا من اختبارات الترقية المهنية للمعلمين والأساتذة، وأعلن وزير التربية عبد الحكيم بلعابد إدراج الإنجليزية في مسابقات التوظيف الخارجية، وصار بإمكان المترشحين الاختيار بينها وبين الفرنسية.
ويرى مثقفون من التيار الفرانكفوني (الناطقون بالفرنسية) أن إحلال الإنجليزية محل الفرنسية في الجامعات ليس أولوية، وأنه لن يؤدي بالضرورة إلى رفع مستوى التعليم العالي والبحث العلمي.
ووصف وزير المالية الأسبق عبد الرحمن بن خالفة استفتاء وزارة التعليم العالي بأنه ارتجال واستباق، وقال على موقع فيسبوك “أوقفوا الارتجال والاستباقية التي تتخذونها كأداة للتسيير في قطاع سيكون للاختيار فيه آثار على ملايين الجزائريين”.
واعتبر رئيس المركز الوطني البيداغوجي لتعليم اللغة الأمازيغية عبد الرزاق دوراري في تصريح لصحيفة محلية مؤخرا استبدال الفرنسية بالإنجليزية جريمة في حق الأمة وشتيمة للنخبة الفرانكفونية.
في المقابل، وصف الباحث في علم الاجتماع محمد قارة في حديث لوكالة الأناضول قرار تعزيز الإنجليزية في الجامعة بالشجاع والجريء، وقال إن “القرار سيجد مقاومة شرسة من التيار الفرانكفوني المدعوم من فرنسا والمتغلغل داخل الإدارات ومراكز القرار”، داعيا إلى التطبيق التدريجي للمشروع مراعاة للموارد البشرية التي يجب أن تكون مؤهلة.
واعتبر قارة أن الجامعة الجزائرية خسرت الكثير بتبنيها اللغة الفرنسية، مما جعلها تقبع في ذيل الترتيب لمختلف التصنيفات العالمية، ورأى أن التوجه نحو إحلال الإنجليزية محل الفرنسية لم يكن ليحدث لولا الظرف السياسي الذي تمر به البلاد، وأنه “قرار سياسي تعبوي أكثر منه قرار مبني على أسس ودراسات”.
وأشاد منسق مجلس أساتذة لتعليم العالي (نقابة مستقلة) عبد الحفيظ ميلاط بقرار تعزيز مكانة الإنجليزية في الجامعة، وقال إن هذا التوجه لن تعترضه أي عراقيل، لأن التدريس باللغة الإنجليزية سيكون في التخصصات التقنية.
وأضاف ميلاط أن “كل الأساتذة في هذه التخصصات متعودون على التعامل فقط باللغة الإنجليزية في جميع الأبحاث العلمية التي ينشرونها في مختلف المجالات العلمية”.
تنظر باريس للغة الفرنسية على أنها أداة نفوذ ثقافي يعزز نفوذ فرنسا السياسي والاقتصادي في مستعمراتها القديمة، ومنها الجزائر، وسبق أن أصدر مجلس الشيوخ الفرنسي عام 2017 تقريرا تساءل فيه عن أسباب عدم انضمام الجزائر إلى منظمة الدول الفرانكفونية رغم الانتشار الواسع لهذه اللغة بين سكانها.
وقال السفير الفرنسي الأسبق في الجزائر برنار باجولي (2006-2008) في كتابه “الشمس لن تشرق في الشرق” إن الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك (1995-2007) حذره من الحديث باللغة العربية مع الجزائريين.
وكتب باجولي “كرر جاك شيراك على مسامعي: لا تتحدث بالعربية.. أنت مستعرب وأنا لا أحتمل هذا في الجزائر ويجب أن تجعلهم في حالة مضطربة، ثم إنني من أجل هذا ترددت في تعيينك، وعليه فأنا أمنعك من الحديث بالعربية”.
وتجاهل باجولي في مرات عدة ما قاله شيراك، وقال “ألقيت خطبا عديدة باللغة العربية، بما في ذلك يوم العيد الوطني الفرنسي، ولا يعني ذلك أن الجزائريين لا يفهمون الفرنسية بل على العكس، فمعظم المسؤولين يتقنونها تماما، لكن مخاطبتهم باللغة العربية الفصحى كانت طريقة لإظهار مدى الاحترام الذي أكنه لثقافتهم التي احتقرتها فرنسا خلال 132 سنة من الاستعمار”.
غنيمة حرب
الفرنسية
هي اللغة الأجنبية الأولى في الجزائر، ويبدأ تدريسها إجباريا في السنة
الثانية من المرحلة الابتدائية، في حين تبدأ الإنجليزية بمناهج التدريس في
الطور المتوسط (الأساسي).
ويعتبر قطاع واسع من الجزائريين الفرنسية من المخلفات الطبيعية للاستعمار الفرنسي كما هو الحال مع الدول التي احتلتها بريطانيا وجعلت الإنجليزية لغتها الأولى.
وقال الأديب الجزائري كاتب ياسين في أحد مؤلفاته إن الفرنسية غنيمة حرب، وإنها من بين الأسلحة التي غنمها الشعب الجزائري في كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي، في حين توقف الكاتب الجزائري المرموق مالك حداد عقب الاستقلال مباشرة عن الكتابة بالفرنسية، ووصفها بـ”لغة المنفى” بالنسبة إليه، معتبرا سلاح لغة المستعمر غير مجدٍ بعد استعادة السيادة الوطنية في 5 يوليو/تموز 1962.
طالب الحراك الشعبي المستمر في الجزائر منذ 22 فبراير/شباط الماضي بإنهاء ما يعتبرها كثيرون “وصاية” فرنسية على الجزائر، ويدعم كثيرون على منصات التواصل الاجتماعي في الجزائر خطط إحلال الإنجليزية محل الفرنسية كخطوة للتخلص من بقايا الاستعمار الفرنسي.
ووصف المتظاهرون في بداية التحركات رموز نظام بوتفليقة بـ”عملاء فرنسا”، وباتت المؤسسة العسكرية منذ رحيل بوتفليقة في مرمى انتقادات التيار الفرانكفوني، في حين رفع المحتجون في الجمعات الأخيرة من الحراك الشعبي شعار “أولاد فرنسا، ارحلوا”.
وكان الوزراء وكبار مسؤولي الدولة يتعرضون لانتقادات لاذعة لحديثهم باللغة الفرنسية في المناسبات الرسمية، سواء داخل أو خارج الجزائر.
ودعا قائد أركان الجيش الجزائري الفريق أحمد قايد صالح قبل أيام إلى تطهير البلد ممن سماهم “عبدة الاستعمار وأصنامه”وفاء لشهداء ثورة التحرير (1954-1962)”، وفهم كثيرون تلك الدعوة على أنها تحذير من قائد أركان الجيش لمجموعات الضغط المحسوبة على فرنسا في أجهزة الدولة.