بقلم زياد أحمد
– “ألو.. آدم؟ أنا تانيا… نعم تانيا زوجة مراد… صديقك يُحتضَر ويريد رؤيتك…”
تانيا هي التي تريد لَمّ الشمل، شملِ شلّة من الأصدقاء كانوا معًا في الجامعة قبل عشرين عامًا، جمعتهم صداقةٌ وأحلا كبرى، واختاروا ذلك البيت القديم لجدّ آدم في الجبل عشًا للقاءاتهم وحواراتهم ولهوهم، لكنّ الحرب مزقت شملهم ونثرتهم كبقية اللبنانيين على منافي العالم. “تلك الحرب التي لم يسلم منها بيتٌ ولم تسلم ذكرى، لقد أفسدت كلّ شيء، الحبّ والإخلاص وصلات القربى والإيمان كما الوفاء، وكذلك الموت “حتى الموت بدا لعينيّ آدم ملطخًا ومشوّهًا؛ فما كان منه إلا أن يلوذ بالفرار؛ كي لا يلطخ يديه بتلك الحرب، كما فعل صديقهم مراد زوج تانيا، والذي اختلف معه إلى حدّ الخصام، كان ذلك امتيازه الرعديد بأنه كان فارًّا شريفًا…. هرب إلى فرنسا؛ ليتابع دراسة التاريخ ويراقب التحولات، لكنه ها هو يجد نفسه في الطائرة المتّجهة إلى لبنان -بعد عشرين عامًا- ملبيًا دعوة تانيا، وحالمًا بلمّ شمل الشلة القديمة في بيت الجبل.
هكذا يبدأ الكاتب روايته، ومعها رحت أستشرف عشرين عامًا مقبلةً من تاريخ سورية التي تشرّد الحربُ اليوم فيها كلّ، ما فيها؛ بل وتحاول قتله، بدءًا من أعماق تاريخها إلى ما في أعماق أرحام الأمّهات والأمّات.
أتابع معه رحلة آدم الذي وصل إلى مطار بيروت متأخرًا، وحزّ في قلبه أنه لم يجد أحدًا في انتظاره، فلجأ إلى فندق؛ ليكملَ ليلته التي مات فيها مراد قبل أن يراه. اعتذر لصديقته أنه لا يستطيع حضور العزاء ومقابلة أثرياء الحرب، من أصدقاء المرحوم، فهو لا يستطيع أن يضع يده في الأيدي الملطخة بالحرب والمتاجرة بدمائها، ولكن تانيا ترد بلسان هؤلاء: إنّ الذين هربوا من الوطن هم الجبناء، هم الذين وقفوا بعيدًا ينتظرون انتهاء الحرب؛ ليعودوا، ولولا الذين بقوا لما وجد هؤلاء وطنًا.
لكنّ الذين رحلوا يرَوْن أنّ الوطن هو الذي قد رحل وليس هم، ما كان أمامهم من خيار، خيّب البلد آمالهم، ولكل امرئ الحقُّ في الرحيل، وعلى بلده أن يقنعه بالبقاء.
يقرر آدم زيارة سمير أميس، إحدى زميلات الشلّة، والتي كانت تتحدث عن حرية الجسد -منذ السبعينيّات- وكانت تحبه وتنتظر منه قبلة، لكنه حين خيّب شفتيها المتقدتين، تزوجت زميلهما بلال المتحمس إلى الحرية، والذي يحلم أن يكون كاتبًا كلوركا وأورويل وغيفارا، ولكنّه حمل السلاح في تلك الحرب، ومات بعد أربعة أيام تاركًا “سومي” أرملة، وأخاه الأصغر نضال مكانه، في المعركة، نضال المسلحٌ بأفكار أخرى، تعنونها لحيتُه المطلقة إلى آخر حدود التطرف.
وفي فندق الجبل الذي افتتحته سومي، احتضنته بفارغ فراشها وصبر شفتيها.
ومن هناك يقرر آدم أن يلمّ شمل الشلّة في البيت القديم، مؤمنًا بأنّ “الحرب التي فرقتهم لم تكتف بالكشف عن أسوأ غرائزنا، بل هي التي تصنّعها وتقولها، فكم من الأشخاص تحولوا إلى سارقين ومهربين وخاطفين وقتلة وجزارين، وكان بوسعهم أن يكونوا أفضل الأشخاص على وجه البسيطة، لو لم تقوّض الحرب مجتمعاتهم” وها هو ألبير، زميلهم الذي هاجر إلى أميركا، أصبح عالمًا في استشراف المستقبل؛ هوايتِه منذ الطفولة.
وأين رامز ورمزي؟ اللذان عرفتهما الشلّة باسم التوأمين، كانا متلازمين، وهما المسيحي والمسلم اللذين دخلا معا كلية الهندسة، وجمعا ثروة من العقارات. رامز أصبح ثريًّا إلى درجة أنه حمل آدم إلى بيته بطيّارته الخاصة؛ بينما لجأ رمزي إلى الدير ليعيش في الفضاء، تاركًا وراءه الدنيا التي ليست أكثرَ من واحة، معلنًا أنه المهندس الذي لن يعود إلى الدنيا؛ ليبني قصور الأغنياء وسجون المظلومين… لكنه وافق على حضور لقاء لمّ الشمل.
وينتقل آدم إلى دعوة نضال (أخي بلال)، والذي التقاه في مكان عام بلحيته الطويلة، مخفورًا بحراسه المسلحين، وتهمِه الجاهزة له وللغرب معًا، وكان حوارًا حادًا:
- “الغرب هو المؤمن؛ حتى في علمانيته، والغرب هو المتديّن؛ حتى في إلحاده، وهنا في المشرق لا يكترث الناس للعقائد الإيمانية، بل للانتماءات؛ فطوائفنا عشائر، وغلوّنا الديني شكل من أشكال القومية
- الحق ليس على الدين في هزائمنا، الدين عنصر، والحق علينا، وإذا كنا مذنبين في نظر العالم؛ فالحق كلّه علينا”
ويصل الحوار إلى طريق مسدود، لكنّ نضال يقبل دعوة لمّ الشمل.
وماذا عن نعيم؟ يقبل الدعوة، على الرغم من معيقات قدومه كيهودي، وهو الذي يرى أنّ دولة إسرائيل هي التي جلبت الويلاتِ لليهود في الوطن العربي.
وحان موعد اللقاء الذي سيجمع صاحبة فندق متحررة، تنادي بحرية الجسد، ومسلم متطرف يكفّر الجميع، وباحث في التاريخ متّهم بالإلحاد، وراهب اعتزل الدنيا، وتوأمه الذي سيصل بطائرته الخاصة، ويهودي ذنبه أنه يهوديٌ عربي؛ شلة لا ذنب لها في كل ما جرى، والمذنب الوحيد هو الحرب التي شتت أفرادها، وما عاد يجمعهم إلا ذكريات مشتركة وحنين لا برء منه.
المفاجأة الكبرى أنّ الذي هرب من هذه المواجهة الروائي.
… ذهب آدم في اليوم المقرر لإحضار رمزي من ديره، ولكنّ السيارة تنهي كلّ شيء بحادث مأسوي، يموت فيه رمزي والسائق بينما يُسعَف آدم بطائرة خاصة مزودة بأجهزة طبية إلى فرنسا.
هذه خلاصة الرواية، وهي واحدة من روايات كثيرة، تناولت موضوع الحرب في العقود الأخيرة في بلادنا؛ محاولة أن تطرح شيئًا من الإشكاليات التي خلفتها، لكن ينطبق عليها ما قيل وما أذهب إلى رؤيته في جميع تلك الروايات وخلاصته:
رواية “التائهون” كغيرها من تلك الروايات التي حاولت أن تقرأ واقع الحرب بتصورات رمادية، يختلط فيها التداعي بالموت؛ كما لو كانت كلُّ رواية رثاءً لماض جميل، فالروائي لم يجعل همّه كهمّ آدم الراوي، وهو لمّ الشمل وما سيحدث خلاله؛ بل كان همُّه وصفَ التداعيات التي ورّثتها الحرب –فكريًا- لنخبة كان الفكر اليساري يوحدها، وبذلك يتقاطع مع غيره من الروائيين الذين تناولوا موضوع الحروب الأخيرة، كفؤاد التكرلي وشاكر الأنباري وأحمد سعداوي وهدى بركات وأحمد الزين، في الاكتفاء بوصف الواقع وتداعياته وطرح الأسئلة، فعالجوا واقعًا عربيًا ضبابي الأفق، مسكونًا بالدمار، وزادهم المعلوف أنه قرأ ما سيتلو ذاك الواقع لا أكثر.
ومن ناحية أخرى، تتميز هذه الرواية بأنها تناولت فكرة الهويّة من الجانب الاجتماعي والنفسي، وشرحت مأزق الانتماء والعلاقة مع الوطن (ولا ننسى أنّ المعلوف هو صاحب الهويات القاتلة)؛ فالرواية التي بدأت تاريخها متبنيةً الوعي القومي قد انحرفت عن مهمتها، مع ماركيز وإيزابيل ليندي وباولو كويلو وماريو فارغاس لوسا، وغيرهم إلى تبني عولمة الأفكار والثقافات؛ لنزع فتيل التأزّم الروحي والعقلي الناجم عن الشعور بالدونية الثقافية؛ فإحدى الشخصيات في الرواية، تقول: “إني أنتمى -بحكم الولادة- إلى حضارة مهزومة، وإذا لم أشأ التنكر لأصلي؛ فأنا محكوم بالعيش مع هذه الوصمة على جبيني”
هذه الرواية ترصد حربًا بين المهاجر المنتمي إلى وطن في الذاكرة، وبين ذاته التي تعيش في وطن آخر، والمتحارَب عليه هو الهوية. وأختم بسؤال: هل تنسحب رؤية المعلوف عن التائهين اللبنانيين على التائهين من الشعب السوري بعد عشرين عامًا؟ أم أننا اليومَ نجمع في تشتتنا كلّ هذا الشتات الفكري، ولن نلتقي ثانية إلا في أقبية الذاكرة؟